سورة الفرقان - تفسير تفسير البيضاوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} تكاثر خيره من البركة وهي كثرة الخير، أو تزايد على كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، فإن البركة تتضمن معنى الزيادة، وترتيبه عن إنزاله {الفرقان} لما فيه من كثرة الخير أو لدلالته على تعاليه. وقيل دام من بروك الطير على الماء ومنه البركة لدوام الماء فيها، وهو لا يتصرف فيه ولا يستعمل إلا لله تعالى و{الفرقان} مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما سمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل بتقريره أو المحق والمبطل بإعجازه أو لكونه مفصولاً بعضه عن بعض في الإِنزال، وقرئ: {على عباده} وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته كقوله تعالى: {وَقَدْ أَنزَلْنَا اليكم آيات} أو الأنبياء على أن {الفرقان} اسم جنس للكتب السماوية. {لِيَكُونَ} العبد أو الفرقان. {للعالمين} للجن والإِنس. {نَذِيراً} منذراً أو إنذاراً كالنكير بمعنى الإِنكار، هذه الجملة وإن لم تكن معلومة لكنها لقوة دليلها أجريت مجرى المعلوم وجعلت صلة.
{الذي لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} بدل من الأول أو مدح مرفوع أو منصوب. {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} كزعم النصارى. {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} كقول الثنوية أثبت له الملك مطلقاً ونفى ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه ثم نبه على ما يدل عليه فقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أحدثه إحداثاً مراعى فيه التقدير حسب إرادته كخلقه الإِنسان من مواد مخصوصة وصور وأشكال معينة. {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} فقدره وهيأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال، كتهيئة الإِنسان للإِدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة إلى غير ذلك، أو {فَقَدَّرَهُ} للبقاء إلى أجل مسمى. وقد يطلق الخلق لمجرد الإِيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق فيكون المعنى وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده حتى لا يكون متفاوتاً.
{واتخذوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً} لما تضمن الكلام إثبات التوحيد والنبوة أخذ في الرد على المخالفين فيهما. {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} لأن عبدتهم ينحتونهم ويصورونهم. {وَلاَ يَمْلِكُونَ} ولا يستطيعون. {لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً} دفع ضر. {وَلاَ نَفْعاً} ولا جلب نفع. {وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً} ولا يملكون إماتة أحد وإحياءه أولاً وبعثه ثانياً ومن كان كذلك فبمعزل عن الأُلوهية لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها، وفيه تنبيه على أن الإِله يجب أن يكون قادراً على البعث والجزاء.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ} كذب مصروف عن وجهه. {افتراه} اختلقه. {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ} أي اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم وهو يعبر عنها بعبارته، وقيل جبر ويسار وعداس وقد سبق في قوله: {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ} {فَقَدْ جَاءُو ظُلْماً} بجعل الكلام المعجز {إِفك} مختلقاً متلقفاً من اليهود. {وَزُوراً} بنسبة ما هو بريء منه إليه وأتى وجاء يطلقان بمعنى فعل فيعديان تعديته.
{وَقَالُواْ أساطير الأولين} ما سطره المتقدمون. {اكتتبها} كتبها لنفسه أو استكتبها، وقرئ على البناء للمفعول لأنه أمي وأصله: اكتتبها كاتب له، فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل وبني الفعل للضمير فاستتر فيه. {فَهِىَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ليحفظها فإنه أمي لا يقدر أن يكرر من الكتاب أو لتكتب.
{قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السموات والأرض} لأنه أعجزكم عن آخِركم بفصاحته وتضمنه أخباراً عن مغيبات مستقبلة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلا عالم الأسرار فكيف تجعلونه {أساطير الأولين}. {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته عليها واستحقاقكم أن يصب عليكم العذاب صباً.
{وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول} ما لهذا الذي يزعم الرسالة وفيه استهانة وتهكم. {يَأْكُلُ الطعام} كما نأكل. {وَيَمْشِي فِي الاسواق} لطلب المعاش كما نمشي، والمعنى إن صح دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا، وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأحوال نفسانية كما أشار إليه تعالى بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} لنعلم صدقه بتصديق الملك.
{أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} فيستظهر به ويستغني عن تحصيل المعاش. {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} هذا على سبيل التنزل أي إن لم يلق إليه كنز فلا أقل من أن يكون له بستان كما للدهاقين والمياسير فيتعيش بريعه، وقرأ حمزة والكسائي بالنون والضمير للكفار. {وَقَالَ الظالمون} وضع {الظالمون} موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوه. {إِن تَتَّبِعُونَ} ما تتبعون. {إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} سحر فغلب على عقله، وقيل ذا سحر وهو الرئة أي بشراً لا ملكاً.
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} أي قالوا فيك الأقوال الشاذة واخترعوا لك الأحوال النادرة. {فُضَلُّواْ} عن الطريق الموصل إلى معرفة خواص النبي والمميز بينه وبين المتنبي فخبطوا خبط عشواء. {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} إلى القدح في نبوتك أو إلى الرشد والهدى.
{تَبَارَكَ الذى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ} في الدنيا. {خَيْراً مّن ذلك} مما قالوا لكن أخره إلى الآخرة لأنه خير وأبقى. {جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} بدل من {خَيْرًا}. {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} عطف على محل الجزاء، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بالرفع لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في جزائه الجزم والرفع كقوله:
وَإِنَّ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ *** يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرَمُ
ويجوز أن يكون استئنافاً بوعد ما يكون له في الآخرة، وقرئ بالنصب على أنه جواب بالواو.


{بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة} فقصرت أنظارهم على الحطام الدنيوية وظنوا أن الكرامة إنما هي بالمال فطعنوا فيك لفقرك، أو فلذلك كذبوك لا لما تمحلوا من المطاعن الفاسدة، أو فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ويصدقونك بما وعد الله لك في الآخرة، أو فلا تعجب من تكذيبهم إياك فإنه أعجب منه. {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} ناراً شديدة الاستعار، وقيل هو اسم لجهنم فيكون صرفه باعتبار المكان.
{إِذَا رَأَتْهُمْ} إِذا كانت بمرأى منهم كقوله عليه السلام: «لا تتراءى ناراهما» أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى على المجاز والتأنيث لأنه بمعنى النار أو جهنم. {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} هو أقصى ما يمكن أن يرى منه. {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} صوت تغيظ، شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وهو صوت يسمع من جوفه، هذا وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبنية أمكن أن يخلق الله فيها حياة فترى وتتغيظ وتزفر. وقيل إن ذلك لزبانيتها فنسب إليها على حذف المضاف.
{وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً} في مكان ومنها بيان تقدم فصار حالاً. {ضَيِّقاً} لزيادة العذاب فإن الكرب مع الضيق والروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها كعرض السموات والأرض. {مُقْرَّنِينَ} قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل. {دَعَوْاْ هُنَالِكَ} في ذلك المكان. {ثُبُوراً} هلاكاً أي يتمنون الهلاك وينادونه فيقولون تعال يا ثبوراه فهذا حينك.
{لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا} أي يقال لهم ذلك. {وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} لأن عذابكم أنواع كثيرة كل نوع منها ثبور لشدته، أو لأنه يتجدد لقوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} أو لأنه لا ينقطع فهو في كل وقت ثبور.
{قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وُعِدَ المتقون} الإِشارة إلى العذاب والاستفهام والتفضيل والترديد للتقريع مع التهكم أو إلى ال {كَنْزٌ} أو ال {جَنَّةُ}، والراجع إلى الموصول محذوف وإضافة ال {جَنَّةُ} إلى {الخلد} للمدح أو للدلالة على خلودها، أو التمييز عن جنات الدنيا. {كَانَتْ لَهُمْ} في علم الله أو اللوح، أو لأن ما وعده الله تعالى في تحققه كالواقع. {جَزَاءً} على أعمالهم بالوعد. {وَمَصِيراً} ينقلبون إليه، ولا يمنع كونها جزاء لهم أن يتفضل بها على غيرهم برضاهم مع جواز أن يراد بالمتقين من يتقي الكفر والتكذيب لأنهم في مقابلتهم.
{لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} ما يشاؤونه من النعيم، ولعله تقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبته إذ الظاهر أن الناقص لا يدرك شأو الكامل بالتشهي، وفيه تنبيه على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة.
{خالدين} حال من أحد ضمائرهم. {كَانَ على رَبّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً} الضمير في {كَانَ} ل {مَا يَشَآءُونَ} والوعد الموعود أي: كان ذلك موعداً حقيقاً بأن يسأل ويطلب، أو مسؤولاً سأله الناس في دعائهم {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} أو الملائكة بقولهم {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} وما في {على} من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده تعالى ولا يلزم منه الإِلجاء إلى الإِنجاز، فإن تعلق الإِرادة بالوعود مقدم على الوعد الموجب للإِنجاز.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} للجزاء، وقرئ بكسر الشين وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص بالياء. {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} يعم كل معبود سواه تعالى، واستعمال {مَا} إما لأن وضعه أعم ولذلك يطلق لكل شبح يرى ولا يعرف، أو لأنه أريد به الوصف كأنه قيل ومعبودهم أو لتغليب الأصنام تحقيراً أو اعتباراً لغلبة عبادها، أو يخص الملائكة وعزيراً والمسيح بقرينة السؤال والجواب، أو الأصنام ينطقها الله أو تتكلم بلسان الحال كما قيل في كلام الأيدي والأرجل. {فَيَقُولُ} أي للمعبودين وهو على تلوين الخطاب، وقرأ ابن عامر بالنون. {أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} لإِخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد النصيح، وهو استفهام تقريع وتبكيت للعبدة، وأصله {أأضللتم} أو {ضَلُّواْ} فغير النظم ليلي حرف الاستفهام المقصود بالسؤال وهو المتولي للفعل دونه لأنه لا شبهه فيه وإلا لما توجه العتاب، وحذف صلة الضل مبالغة.
{قَالُواْ سبحانك} تعجباً مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون، أو جمادات لا تقدر على شيء أو إشعاراً بأنهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده فكيف يليق بهم إضلال عبيده، أو تنزيهاً لله تعالى عن الأنداد. {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا} ما يصح لنا. {أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء} للعصمة أو لعدم القدرة فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحداً دونك، وقرئ: {نَّتَّخِذَ} على البناء للمفعول من اتخذ الذي له مفعولان كقوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً} ومفعوله الثاني {مِنْ أَوْلِيَاء} و{مِنْ} للتبعيض وعلى الأول مزيدة لتأكيد النفي. {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَاءَهُمْ} بأنواع النعم فاستغرقوا في الشهوات. {حتى نَسُواْ الذكر} حتى غفلوا عن ذكرك أو التذكر لآلائك والتدبر في آياتك، وهو نسبة للضلال إليهم من حيث إنه بكسبهم وإسناد له إلى ما فعل الله بهم فحملهم عليه، وهو عين ما ذهبنا إليه فلا ينتهض حجة علينا للمعتزلة. {وَكَانُواْ} في قضائك. {قَوْماً بُوراً} هالكين مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع، أو جمع بائر كعائذ وعوذ.
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} التفات إلى العبدة بالاحتجاج والإِلزام على حذف القول والمعنى فقد كذبكم المعبودون. {بِمَا تَقُولُونَ} في قولكم إنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا والباء بمعنى في، أو مع المجرور بدل من الضمير، وعن ابن كثير بالياء أي: {كَذَّبُوكُمْ} بقولهم {سبحانك مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا}.
{فَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أي المعبودون وقرأ حفص بالتاء على خطاب العابدين. {صَرْفاً} دفعاً للعذاب عنكم، وقيل حيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال. {وَلاَ نَصْراً} يعينكم عليه. {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ} أيها المكلفون. {نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} هي النار والشرط وإن عم كل من كفر أو فسق لكنه في اقتضاء الجزاء مقيد بعدم المزاحم وفاقاً، وهو التوبة والإِحباط بالطاعة إجماعاً وبالعفو عندنا.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} أي إلا رسلاً إنهم فحذف الموصوف لدلالة المرسلين عليه وأقيمت الصفة مقامه كقوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} ويجوز أن تكون حالاً اكتفى فيها بالضمير وهو جواب لقولهم {مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} وقرئ: {يَمْشُونَ} أي تمشيهم حوائجهم أو الناس. {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ} أيها الناس. {لِبَعْضٍ فِتْنَةً} ابتلاء ومن ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء، والمرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وإيذائهم لهم، وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه بعد نقضه، وفيه دليل على القضاء والقدر. {أَتَصْبِرُونَ} علة للجعل والمعنى {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} لنعلم أيكم يصبر ونظيره قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أو حث على الصبر على ما افتتنوا به. {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} بمن يصبر أو بالصواب فيما يبتلى به وغيره.


{وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ} لا يأملون. {لِقَاءَنَا} بالخير لكفرهم بالبعث، أولا يخافون {لِقَاءنَا} بالشر على لغة تهامة، وأصل اللقاء الوصول إلى الشيء ومنه الرؤية فإنه وصول إلى المرئي، والمراد به الوصول إلى جزائه ويمكن أن يراد به الرؤية على الأول. {لَوْلاَ} هلا. {أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة} فتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل فيكونوا رسلاً إلينا. {أَوْ نرى رَبَّنَا} فيأمرنا بتصديقه واتباعه. {لَقَدِ استكبروا فِي أَنفُسِهِمْ} أي في شأنها حتى أرادوا لها ما يتفق لأفراد من الأنبياء الذين هم أكمل خلق الله في أكمل أوقاتها وما هو أعظم من ذلك. {وَعَتَوْا} وتجاوزوا الحد في الظلم. {عُتُوّاً كَبِيراً} بالغاً أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها، واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية، واللام جواب قسم محذوف وفي الاستئناف بالجملة حسن وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم كقوله:
وَجَارَةُ جَسَّاسٍ أَبأنا بِنَابِهَا *** كُلَيْباً عَلَتْ نَاب كُلَيْب بوَاؤهَا
{يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة} ملائكة الموت أو العذاب، و{يَوْمَ} نصب باذكر أو بما دل عليه. {لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ} فإنه بمعنى يمنعون البشرى أو يعدمونها، و{يَوْمَئِذٍ} تكرير أو خبر و{لّلْمُجْرِمِينَ} تبيين أو خبر ثان أو ظرف لما يتعلق به اللام، أو ل {بُشْرىً} إن قدرت منونة غير مبنية مع {لا} فإنها لا تعمل، ولل {مُّجْرِمِينَ} إما عام يتناول حكمه حكمهم من طريق البرهان ولا يلزم عن نفي البشرى لعامة المجرمين حينئذ نفي البشرى بالعفو والشفاعة في وقت آخر، وإما خاص وضع موضع ضميرهم تسجيلاً على جرمهم وإشعاراً بما هو المانع للبشرى والموجب لما يقابلها. {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} عطف على المدلول أي ويقول الكفرة حينئذ، هذه الكلمة استعاذة وطلباً من الله تعالى أن يمنع لقاءهم وهي مما كانوا يقولون عند لقاء عدو أو هجوم مكروه، أو تقولها الملائكة بمعنى حراماً عليكم الجنة أو البشرى. وقرئ: {حجْراً} بالضم وأصله الفتح غير أنه لما اختص بموضع مخصوص غير كقعدك وعمرك ولذلك لا يتصرف فيه ولا يظهر ناصبه، ووصفه بمحجوراً للتأكيد كقولهم: موت مائت.
{وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} أي وعمدنا إلى ما عملوا في كفرهم من المكارم كقرى الضيف وصلة الرحم وإغاثة الملهوف فأحبطناه لفقد ما هو شرط اعتباره، وهو تشبيه حالهم وأعمالهم بحال قوم استعصوا على سلطانهم فقدم إلى أشيائهم فمزقها وأبطلها ولم يبق لها أثراً، وال {هَبَاء} غبار يرى في شعاع يطلع من الكوة من الهبوة وهي الغبار، و{مَّنثُوراً} صفته شبه عملهم المحبط بالهباء في حقارته وعدم نفعه ثم بالمنثور منه في انتشاره بحيث لا يمكن نظمه أو تفرقه نحو أغراضهم التي كانوا يتوجهون به نحوها، أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر كقوله تعالى: {كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} مكاناً يستقر فيه أكثر الأوقات للتجالس والتحادث. {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} مكاناً يؤوى إليه للاسترواح بالأزواج والتمتع بهن تجوزاً له من مكان القيلولة على التشبيه، أو لأنه لا يخلو من ذلك غالباً إذ لا نوم في الجنة وفي أحسن رمز إلى ما يتميز به مقيلهم من حسن الصور وغيره من التحاسين، ويحتمل أن يراد بأحدهما المصدر أو الزمان إشارة إلى أن مكانهم وزمانهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة والأزمنة، والتفضيل إما لإِرادة الزيادة مطلقاً أو بالإِضافة إلى ما للمترفين في الدنيا. روي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء} أصله تتشقق فحذفت التاء، وأدغمها ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب. {بالغمام} بسبب طلوع الغمام منها وهو الغمام المذكور في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام والملائكة} {وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} في ذلك الغمام بصحائف أعمال العباد، وقرأ ابن كثير {وننزل} وقرئ و{نزلت} {وأنزل} {وَنُزِّلَ الملائكة} بحذف نون الكلمة.
{الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} الثابت له لأن كل ملك يبطل يومئذ ولا يبقى إلا ملكه فهو الخبر و{للرحمن} صلته، أو تبيين و{يَوْمَئِذٍ} مفعول {الملك} لا {الحق} لأنه متأخر أو صفته والخبر {يَوْمَئِذٍ} أو {للرحمن}. {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً} شديداً.
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} من فرط الحسرة، وعض اليدين وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفهما، والمراد ب {الظالم} الجنس. وقيل عقبة بن أبي معيط كان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال صبأت فقال: لا، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحيت منه فشهدت له، فقال لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه، فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف، فأسر يوم بدر» فأمر علياً فقتله وطعن أبَياً بِأُحُدْ في المبارزة فرجع إلى مكة ومات. {يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً} طريقاً إلى النجاة أو طريقاً واحداً وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طرق الضلالة.
{يَا وَيْلَتَى} وقرئ بالياء على الأصل. {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} يعني من أضله وفلان كناية عن الأعلام كما أن هنا كناية عن الأجناس.
{لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر} عن ذكر الله أو كتابه أو موعظة الرسول، أو كلمة الشهادة. {بَعْدَ إِذْ جَاءنِي} وتمكنت منه. {وَكَانَ الشيطان} يعني الخليل المضل أو إبليس لأنه حمله على مخالته ومخالفة الرسول، أو كل من تشيطن من جن وإنس. {للإنسان خَذُولاً} يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ثم يتركه ولا ينفعه، فعول من الخذلان.
{وَقَالَ الرسول} محمد يومئذ أو في الدنيا بثاً إلى الله تعالى. {قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِي} قريشاً. {اتخذوا هذا القرءان مَهْجُوراً} بأن تركوه وصدوا عنه، وعنه عليه الصلاة والسلام: «من تعلم القرآن وعلق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول: يا رب عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه» أو هجروا ولغوا فيه إذا سمعوه أو زعموا أنه هجر وأساطير الأولين، فيكون أصله {مَهْجُوراً} فيه فحذف الجار ويجوز أن يكون بمعنى الهجر كالمجلود والمعقول، وفيه تخويف لقومه فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً مّنَ المجرمين} كما جعلناه لك فاصبر كما صبروا، وفيه دليل على أنه خالق الشر، والعدو يحتمل الواحد والجمع. {وكفى بِرَبّكَ هَادِياً} إلى طريق قهرهم. {وَنَصِيراً} لك عليهم.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرءان} أي أنزل عليه كخبر بمعنى أخبر لئلا يناقض قوله: {جُمْلَةً واحدة} دفعة واحدة كالكتب الثلاثة، وهو اعتراض لا طائل تحته لأن الإِعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقاً مع أن للتفريق فوائد منها ما أشار إليه بقوله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي كذلك أنزلناه مفرقاً فتقوى بتفريقه فؤادك على حفظه وفهمه، لأن حاله يخالف حال موسى وداود وعيسى حيث كان عليه الصلاة والسلام أمياً وكانوا يكتبون، فلو ألقي عليه جملة لعيل بحفظه، ولعله لم يستتب له فإن التلقف لا يتأتى إلا شيئاً فشيئاً، ولأن نزوله بحسب الوقائع يوجب مزيد بصيرة وغوص في المعنى، ولأنه إذا نزل منجماً وهو يتحدى بكل نجم فيعجزون عن معارضته زاد ذلك قوة قلبه، ولأنه إذا نزل به جبريل حالاً بعد حال يثبت به فؤاده ومنها معرفة الناسخ والمنسوخ ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية، فإنه يعين على البلاغة، وكذلك صفة مصدر محذوف والإِشارة إلى إنزاله مفرقاً فإنه مدلول عليه بقوله: {لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة} ويحتمل أن يكون من تمام كلام الكفرة ولذلك وقف عليه فيكون حالاً والإِشارة إلى الكتب السابقة، واللام على الوجهين متعلق بمحذوف. {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} وقرأناه عليك شيئاً بعد شيء على تؤدة وتمهل في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفليجها.
{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} سؤال عجيب كأنه مثل في البطلان يريدون به القدح في نبوتك. {إِلاَّ جئناك بالحق} الدامغ له في جوابه. {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} وبما هو أحسن بياناً أو معنى من سؤالهم، أو {لا يَأْتُونَكَ} بحال عجيبة يقولون هلا كانت هذه حاله إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا وما هو أحسن كشفاً لما بعثت له.
{الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ} أي مقلوبين أو مسحوبين عليها، أو متعلقة قلوبهم بالسفليات متوجهة وجوههم إليها. وعنه عليه الصلاة والسلام: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف، صنف على الدواب وصنف على الأقدام وصنف على الوجوه» وهو ذم منصوب أو مرفوع أو مبتدأ خبره. {أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} والمفضل عليه هو الرسول صلى الله عليه وسلم على طريقة قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} كأنه قيل إن حاملهم على هذه الأسئلة تحقير مكانه وتضليل سبيله ولا يعلمون حالهم ليعلموا أنهم شر مكانًا وأضل سبيلاً، وقيل إنه متصل بقوله: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي للمبالغة.

1 | 2